د. عائض القرني
الناجح بهمته وصدق عزيمته يسهل الله له الصعاب ويهيئ له الظروف، أما الكسول الفاشل المحبط فيعتذر بالظروف وتقلبات الطقس وحالات المناخ كما قال الله تعالى عن المنافقين «وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ»، وكما قال علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وهو يوبخ المهزومين: إذا حلَّ الصيف قلتم لا نفر في الحر، وإذا حلَّ الشتاء، قلتم لا نقاتل في القر، فلا في الحر قاتلتم، ولا في القر جاهدتم يا أشباه الرجال ولا رجال، يا أمثال ربات الحجاب. فالناجح يتوكل على الله ولا تعيقه الظروف عن طموحه ومشاريعه الرائدة الجبارة، أما الضعيف المهزوم فأي ظرف يعيقه فتجد عنده قائمة من الظروف الصعبة في نظره تمنعه من العلم والتزود من المعرفة والصعود إلى معالي الأمور وتولي المهمات الصعبة خذ مثلا حفظ القرآن.. أعرف شبابا من سنوات يتوعدون ويهددون بأنهم سوف يحفظونه، ولكن إذا تشافت والدة أحدهم أو أكمل دراسته وعاد إلى مدينته أو انتهى من إجازته عنده كلمة سوف وهي كلمة الإحباط والفشل والانهزام وقد ندد الله بأعدائه وأحال عليهم «سوف» عذابا في الآخرة فقال «ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» قال بعض العلماء: حملهم طول الأمل، وسوء العمل، واستبطاء الأجل، على الإكثار من سوف، فأنبتت لهم شجرة «سوف» نبتة «ليت» طلعها «لعل» وثمرها «الخيبة» وطعمها «الندامة».
لا تنتظر الظروف تتهيأ لك فما تهيأت لأحد فالرواد والفاتحون والعظماء والعلماء والمخترعون عندهم ظروف مثل ظروفك بل أشد كانوا يمرضون ويجوعون ويفتقرون ويموت أقاربهم ويُهاجَمون من أعدائهم وحسّادهم، لكنهم يصبرون ويستمرون ويواصلون، أحسن الله عزاءك في النجاح والتميز والريادة إذا بقيت تنتظر الظروف السانحة والمناسبة لك، متى تتعلم العلم إذا كان الشتاء يؤذيك ببرده، والصيف يزعجك بحره، وتكرار العلم يسبب لك الإرهاق، والحفظ يجلب لك الملل، والعمل يدخل عليك المشقة؟ يقول الصينيون: «الجالس على الأرض لا يسقط» لأنه ساقط أصلا من أين يسقط وهو لم يصعد جبلا ولم يرتقِ قمة إنما يسقط من يصعد جبال الهملايا والألب والسروات ويجنّح كالصقر في طلب السمو والرفعة.
التقى الفرس والحمار فقال الحمار للفرس: لو خففت من الجري فقد أتعبت نفسك، قال الفرس: أنا لما أسرعت في الجري ركبني الملوك وأنت لما أبطأت في السير حملوا عليك الروث والحطب، وقال الضبع للأسد أنا في مكاني يأتيني صيدي وأنا سمين منعّم وأنت لا تأكل صيدك إلا بعد جهد وقتال، قال الأسد: لأنك تأكل الميتة والجيفة فرضيت بالدون وأنا لا آكل إلا البازل من الجمال والسمينة من البقر.
وكثير من الناس تركوا الفضائل والتحلي بالصفات الجميلة وطلب العلم والمعرفة بحجة أن الظروف لا تساعدهم أو كانت ضدهم.. أتذكر أحد الأثرياء في بغداد اعترض على الأعمش المحدث الكبير لما أورد حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الرجل الثري للأعمش: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فقال الأعمش: أشغلك عنه جلوسك على جفان الثريد وتربعك على فرش الحرير، وفي الصحيح أن ابن مسعود يقول: كنت قبل الهجرة في الحرم أصلي وحدي فأقبل رجلان سمينان بطينان كثيرٌ شحم بطونهما قليل فقه عقولهما، وقال أحدهما للآخر: هل ربنا يسمعنا إذا تكلمنا؟ فقال الآخر: يسمعنا إذا رفعنا أصواتنا ولا يسمعنا إذا تناجينا، وفي حياتنا نشاهد أناسا فارغين عاطلين فنسألهم لماذا تركوا القراءة أو التلاوة أو عملا صالحا محددا فيعتذرون إما بكثرة أسفارهم أو ظروفهم العائلية أو أنهم سوف يفعلون ذلك مستقبلا وما هناك إلا التسويف والإرجاف والوهم، الصادق في عزيمته يركب الصعب والذلول ليحقق مراده بإذن الله. ولقد طالعت كتاب «سير أعلام النبلاء» في (23) مجلدا و«الأعلام» للزركلي (10) مجلدات كلها عن الأعلام والعظماء والناجحين، فإذا القاسم المشترك الذي يجمعهم هو الهمة العالية والصبر والمثابرة وحفظ الوقت وعدم انتظار الظروف المناسبة، ومنهم الأعمى والأشل والأعرج والمقعد والمريض والفقير، ولكنهم ساروا نجوما في العلم والمعرفة والقيادة وأبواب الخير والصلاح، فابدأ من الآن وتوكل على الله ولا تنتظر تهيؤ الظروف فما تهيأت لأحد، ولم تُفرش طرق المثابرين والمجاهدين واللامعين بالورود بل بالشوك والتعب والنصب والدموع والعرق والدماء حتى جلسوا فوق النجوم. قال أبو الطيب:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ حقيرٍ كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ
| |
|